يسعى بعض المتخصصين في علوم الفلك والفيزياء الفلكية والفضائية بحماس إلى مشروع ربط شيء من مضمون قول الله تعالى في سورة الرحمن بالآيتين 33 و35 من التحدي القرآني:«يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ، فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ، فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، الرحمن 33-36.
بتوجيهات فيزيائية فلكية وفضائية تتعلق بمسألة التنقل بين الأجرام السماوية سواء لاستكشاف الكون ومحتواه أو للبحث عن الحياة في الكون أم لغير ذلك، أخذ البعض يتداول مدلول (سُلْطَان) على أنه العلم والتكنولوجيا أو المركبة الفضائية أو الصاروخ الناقل…الخ. وهم بذلك يُعدّون الأرض موطن أو أصل الانطلاق في هذه المهمة وإن لم يفصحوا، إلا أن تفسير هذه الآيات الكريمة يشير عند ابن كثير والجلالين وغيرهما من الصحابة والتابعين، إلى أن المسألة تتعلق بيوم القيامة وأن لا مهرب من أمر الله جل جلاله وقدره، وعند محاولة الهرب هذه يُرسل على الهاربين شواظ من نار ونحاس أي من لهب لا دخان فيه ودخان لا نار له (في معنى النحاس).
من هنا، فإن الآيتين الكريمتين (33 و35) مرتبطتان، والاكتفاء بالآية الأولى (33) للاستدلال بها على السفر بين الكواكب والنجوم يفتقر إلى الموضوعية، لأنه يعزل مضمونها عن الآية الكريمة الثانية (35) التي تمنع هذه المحاولة بقول الله تعالى «فَلا تَنتَصِرَانِ»، فهل نريد لمحاولات السفر هذه الفشل، ولا ندري هل لا ينتبهون إلى حرف الجر (مِنْ) في قول الله تعالى «مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض»، وليس كما هو المفترض في رحلات الفضاء (في أقطار السماوات والأرض )، أي نواصيهما إذ إن (مِنْ) تعزز مفهوم (الهروب) ولا تتعلق بغاية السفر (إلى) أو المغادرة (إلى) أو الولوج (في) أو العروج (إلى)…الخ. أما التحدي في قوله الله تعالى: «إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض» فهو ليس الإقرار المطلوب أبداً حتى إذا أتم قوله تعالى: «فانفذوا» اكتمل التحدي (الاستحالة) في الواقع. وهذا المعنى غيره مدلول (الاستطاعة) المسموح بها حسب النظام اللغوي العربي. لذلك لا نرى مجالاً لتوسيع معنى هذا النص إلى رحلات فضائية بسبب نهايته الواضحة في جملة «فَلا تَنتَصِرَانِ» إذا تركنا باقي الأسباب، إلا أن النص نفسه وما قبله من قول الله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ» (الرحمن 31)،أي الجن والإنس، يؤكد وجود مخلوقات عاقلة متقدمة في أقطار السماوات (نواحيها وجهاتها) فضلاً عن الأرض، وذلك يشير لنا وللقارئ معنا إلى مادة الحياة في الكون لدراستها ومذاكرتها على نحو رصين وجاد. أما فصل مدلول الآيات الكريمات، بفصل بعضها عن بعض، بهدف منح ما نريد من معنى (لبعض) النص على سبيل توسيع المعنى أو تحسينه فلا نحسب أنَّه يصير موضع رضا فقهاء الشرع وعلماء التفسير إن حظي بموافقتنا.
الرحلات الفضائية المأهولة في يومنا محدودة جداً بأقطار السماوات، إذ لا تتعدى المسافة بين القمر والأرض وربما تصل المريخ خلال السنوات العشر القادمة، لأن التكنولوجيا غير قادرة على ذلك، وللعلم فقط فإن الكون هو كل شيء خلقه الله «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر» القمر 49. يتألف الكون الحقيقي من: 72% طاقة مظلمة (من المحتمل أنها المسببة بتسارع تمدد الكون) و23% مادة مظلمة (نلاقي صعوبة برصد محتواها) و4% غازات الهيدروجين والهيليوم الحرة و0.5% نجوم وكواكب و0.3% نيوترونات و0.03% عناصر ثقيلة.
وبالتالي، نحن البشر على سطح هذا الكوكب الصغير وبتعاملنا مع أحدث تقنيات يومنا، نستطيع أن نرى ونرصد مختلف الأجرام السماوية ضمن الكون المرئي، أي ال 5% من الكون الحقيقي، وبذلك فإن المجرات والنجوم والكواكب والأقمار…الخ من أجرام سماوية مختلفة نرصدها ضمن الكون المرئي الذي بدأ قبل 13.78 مليار سنة تقريباً منذ لحظة الانفجار الكبير (الفتق الكبير): «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ»، الأنبياء 21.
وبالتالي، في هذا الكون الواسع الشاسع والمحبوك والمملوء بالمادة والطاقة لا يمكن للإنسان وبأحدث تقنيات اليوم والمستقبل القيام برحلات فضائية مأهولة بعيداً عن أقرب الكواكب لنا، كل ذلك بأمره تعالى وبسلطانه العظيم.
* مدير جامعة الشارقة رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك